لماذا تنمو الجريمة في المجتمع العربي؟
مقالات

جدال عفوي أو رصاصة طائشة، لا يهم، في كلتا الحالتين قد تكون ضحيّة لعصابات الإجرام التي تفتك في مجتمعنا العربي وتضيّق علينا جميعًا حياتنا اليوميّة، حتى يفضل المرء حجر نفسه بالبيت والابتعاد عن إيّ إشكال قد يحدث بمجرد الاحتكاك بأشخاص آخرين.
جميعنا نسأل عن الحلول.. قبل أن نعي الأسباب وندرسها، لتصبح مطالب بعضنا متمحورة حول التعاون مع السلطات الإسرائيلية أملا في إيجاد حلّ لانتشار الجريمة المنظّمة. ورغم معرفتنا أن المخابرات والشرطة هما أساس الورطة، بتنا نطالب بتدخلهما الفوري والعاجل لمعالجة الوضع وانتشالنا من واقعنا المؤلم المنكوب، لهذا أرى من الضروري توضيح بعض النقاط من خلال هذا المقال.
بين كل ما يلازم هذه الأزمة، يمكننا أن نستشعر الإحساس باليأس والعجز أمام منظمات الإجرام ورؤية ازدياد أعداد الضحايا بطريقة مخيفة، وتأثير ذلك على حياتنا اليومية، فأصبح الخوف ملازم لنا خلال العمل أو حتى خلال ممارستنا أعمالنا اليوميّة الروتينيّة، كشراء أغراض البيت وما شابه. بات كل شيء متوقعًا ومشكوك فيه، هذا الوضع يشير إلى تفكك اجتماعي بل، ويعمّقه أيضًا.
وبالتالي، يؤدي بنا هذا الوضع إلى الانغلاق على أنفسنا اجتماعيا، والتعاطي مع عدد أقل من الناس لتجنب التورط في مشاكل مع منظمات الإجرام . كما يخلق بعض الغضب بين الناس والذي يتم توجيهه عند البعض إلى القيادة العربية ضعيفة البنية أصلا وضيّقة الأفق السياسي، والتي تسعى بحسب رأيي لكبح الغضب وإخماد من خلال نشاطات غير مجدية، ربما بسبب عدم وجود حلول بين أيديهم لوضع حدّ لهذه الآفة التي تفتك بمجتمعنا.
لا سياسة دون اقتصاد مسيّس!
ولكن، من أجل تفسير طريقة نمو الجريمة المنظمة علينا أولًا فهم العلاقة بين القمع السياسي والانفتاح الاقتصادي الذي خططت له السلطات الإسرائيليّة بتوجهها النيو-ليبرالي، وكذلك، علاقة تعزيز الرأسمالية الإسرائيلية بتعزيز سلطة عصابات الإجرام في المجتمع العربي .وبناءً على هذا، قد يكون الرد الوحيد على مسألة الجريمة المنظمة هو "بناء قوة سياسية"، تربط بين قضية التحرر الوطني والنضال ضد الرأسمالية الإسرائيلية.
جميعنا يعلم أن هناك العديد من الأهداف السياسية التي تسعى إليها السلطات الإسرائيلية من خلال بث الرعب باستخدام عالم الإجرام المنظم بيننا، والهدف الأول وهو المبني على عقلية الإبادة: التخلص من الفلسطينيين. وبكلمات أبسط، دفعنا إلى أن نقتل بعضنا البعض دون الحاجة لأن يتعبوا أنفسهم، وهكذا تتحقق سياسة الإبادة الجماعية غير المباشرة، إضافة إلى الهجرة القسرية والتي نسمعها في الفترة الأخيرة كثيرًا بين الشباب: " ينعل أبو هالبلد بدي أخلص تعليمي وأهج من هون". إذ لم يعد من السهل أن نعارك على وجودنا رغم علمنا أن معركتنا وجودية، ولكن وصلنا إلى مرحلة نسأل بها أنفسنا، من أهم الأرض أم شعبها؟
تتجذر المشكلة في السّياق الاستعماري الذي ترانا الدولة من خلاله عدواًّ داخليًّا يتوجّب تشديد السيطرة عليه وعرقلة عمله الجماعيّ، ومن ثم أصبحنا نرى أنفسنا أعداء لبعضنا البعض، وهو ما يجب ربطه بموضوع الهوية والانتماء لشعبنا الفلسطيني. إذ إن الشعور بالضياع بين الشباب وعدم معرفة تاريخه وهويته، وبالمقابل تسلل الأفكار المبعثرة من خلال استهلاكه للإعلام الاسرائيلي أو حتى خلال عمله في أيامه المعتادة ووصفه بالمخرب والإرهابي، تكوّن في فكره بأن مجتمعه سيء. فتبدأ مرحلة نفي الهوية الوطنية من أجل أن يتم تقبله في مجموعات العمل، بهدف الانخراط في المجتمع الإسرائيلي وهو ما تعمل من أجله السلطات الإسرائيلية والتي تعول على ابتعاده عن قضايا شعبه وحينها ينشغل بنفسه، بما يعزز الفردانية من أجل النقود السريعة والسهلة لعيش حياة الرفاهية التي يحلم بها الجميع، لكن بعد أن ينسلخ عن جذوره في هذه الحالة. بالنهاية، يلجأ الشباب إلى العمل مع هذه المنظمات الاجرامية المتهمة أساسا بالتعاون مع المخابرات بتصريح من الشرطة ومن عضو البرلمان في حزب"عوتسما يهوديت" في الائتلاف الحكومي المتطرف "الموج كوهين".
الاضطهاد القومي واستمرار النكبة
هذا هو الهدف الثاني، فعندما نقول بأن الشرطة والمخابرات هي شريك رئيسي ومركزي في انتشار السلاح وازدياد نسبة القتلى والشباب المأجورين عند هذه المنظمات، يجب علينا أن نُفصّل ذلك وليس فقط اتهام دون تحليل منطقي يجيب على هذه المسألة.
منذ احتلال الأراضي الفلسطينية عام 48 وإقامة دولة إسرائيل على أراضيها، أضعفت، استغلت، و اضطهدت إسرائيل الفلسطينيين، ومن ثم أسست بيت كبير للمنظمات الاجرامية التي تخدم أهدافها. من وجهة النظر هذه، دائما ما نسمع أن عصابات الإجرام متعاونة مع المخابرات الاسرائيلية وليس فقط من خلال معرفة هوية هؤلاء المجرمين، ولكن أيضًا كادعاء مبدئي حول الدور السياسي القمعي للجريمة بوصفها استمرارًا للاحتلال بوسائل أخرى. هناك حقيقة في هذا النهج، لكنه أيضًا برأيي يعاني من نقطة عمياء. لأن نمو المنظمات الإجرامية هو تعبير عن وضع أكثر تعقيدًا: ليس فقط كأداة للقمع والسيطرة السياسية، ولكن أيضًا في سعيه إلى التكامل والقيادة (التنقل) كمركب جوهريّ، وهو ما ينعكس في نمو الطبقة الوسطى العربية وتوسع كبير في الوضع الاقتصادي، حتى وإن كانت غير كافية بالتأكيد، من ميزانيات الحكومة للمجتمع العربي.
ما يفسر في هذه المرحلة، التناقض بين التكامل الاقتصادي والاجتماعي. والإقصاء السياسي الشديد ليس نتاجًا تاريخيًا ظرفيًا. هذا مشروع سياسي مهيمن نما تحت أيدي السلطات الإسرائيلية منذ عام 2000 بتوجيه من كبار مسؤولي الشاباك والاقتصاد الإسرائيلي. في عمقه، بدأ تحرك واسع النطاق للتنمية الاقتصادية وفق الأسس النيوليبرالية، والهدف منه تنمية "رأس المال البشري العربي". أي السعي لخلق سكان منتجين يغذون مصادر النمو الاقتصادي.
الهدف الثالث إسكات "وثائق الرؤية" وتغييبها عن النقاش
اكتسبت هذه الخطوة طابعها الخاص في عام 2006، عندما نُشرت "وثائق الرؤية المستقبلية". وتشمل أربع وثائق لمؤسسات فلسطينية كبرى تطالب بتصحيح الظلم التاريخي والمساواة في المواطنة. أشهرها كان وثيقة جمعها خبراء فلسطينيون وشخصيات عامة من أجل لجنة رؤساء السلطات المحليّة العربية ولجنة المراقبة. تتضمن هذه الوثيقة تحليلاً مفصلاً للوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للأقلية العربية الفلسطينية وتقدم للجمهور اليهودي إطارًا واضحًا ومبررًا لنظام واسع وتغيير اجتماعي وسياسي، والتي كان هدفها في الأساس أن تقدم مقاربة جديدة للتحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني، وسبل مواجهتها، من منظور شبابي، إضافة إلى توسيع مهاراتهم ونطاق مشاركتهم وتأثيرهم في عملية صنع وتنفيذ القرار، والمساهمة في إيجاد الحلول للمشكلات والتحديات الكبرى التي تواجه القضية والمجتمع والشباب. ولا أقول أنني من مؤيدي هذه الوثيقة وتقسيم فلسطين أو التنازل عن شبر من هذه الأرض، ولكن النقطة المهمة هُنا هو إخفاء أي محاولة لتحسين أوضاع الفلسطينيين.
لم يتمكن معظم الناس من قراءة هذه الوثيقة وربما لم يسمعوا عنها. لماذا ؟ لأنه تم إسكاتها بسرعة وفاعلية من قبل الشاباك. كما هو موصوف في كتابه لعام 2019 من قبل عضو في الشاباك السابق (الدكتور دورون ماتزا)، نظرت الأجهزة الأمنية إلى وثائق الرؤية على أنها تهديد يجب إحباطه. ليس بسبب وجود أي دعوة للعنف فيها - فهذه" وثائق محبة للسلام تمامًا" - ولكن لأنها تقوض "الطابع اليهودي" لدولة "إسرائيل". وبشكل أساسي، أنكر الشاباك الحق السياسي الأساسي في إجراء نقاش عام مفتوح ومستنير حول هوية ومستقبل الفلسطينيين. ولكن وكأن ذلك لم يكن كافيا، فقد أزال مكتب رئيس الوزراء الفصل الاقتصادي من وثائق الرؤية من سياقه السياسي العام وأصبح أساس خطط "التكامل الاقتصادي" للمواطنين الفلسطينيين في "إسرائيل". أي بالنسبة لخطط الحكومة الخمسية، وهي (وليس منصور عباس!) مصدر الميزانيات الجديدة المنقوصة التي وصلت للمجتمع العربي.
لماذا هذا الربط بين الأمرين مهم؟ لأن هذا القرار السياسي الأمني له وجهة سياسة واضحة وصريحة وهي: تحويل الميزانيات الحكومية إلى السلطات والمجالس المحلية، من خلال مناقصات تنافسية فيما بينها. فكانت الميزة هنا ذات شقين - أولا فرض المعايير النيوليبرالية لـ "الكفاءة الاقتصادية"، ثم تجاوز وتحييد الأحزاب السياسية والهيئات التمثيلية القيادية للمجتمع العربي.
المعنى العملي لذلك هو أن "السلطات الإسرائيلية" بدأت في تحويل مبالغ كبيرة للسلطات المحلية، والهيئات الضعيفة الخاضعة لنظام الضغوطات المحلية الهائلة، والتي هي نفسها نتاج هياكل السيطرة الإسرائيلية السابقة: تنمية القيادة المحافظة والمؤسسة العشائرية تحت الحكم العسكري. أي أن المعادلة واضحة، اخلطوا بعض الأسلحة التي تتدفق إلى المستوطنات للمجتمع العربي بشكل روتيني وانتظروا حربا وحشية عشائرية على المناقصات والانتخابات ومناطق النفوذ، بالضبط كما نرى في فترات الانتخابات للمجالس والبلديات.
وهذا بالطبع ليس السبب الوحيد لنمو المنظمات الإجرامية. من نواحٍ مختلفة، عملت أنماط التنمية الاقتصادية على توسعة الفوارق الاجتماعية، لا سيما على خلفية عدم المساواة الهيكلية والمؤسسية بين اليهود والعرب. على سبيل المثال، أدت الزيادة الهائلة في القيمة الاقتصادية للأراضي المتضائلة في الأحياء العربية في المثلث والجليل إلى ظهور طبقة جديدة من الأثرياء. هذه الفئة ليس لديها شرطة لحماية ممتلكاتها من المنافسين.هذا هو المكان الذي تأتي فيه المنظمات الإجرامية لتعبئة الفراغ، مثل شركات الأمن الخاصة والبلطجية المأجورين، الذين يديرون أيضًا شركات الحماية الخاصة وقروض الفائدة. وتحت العين الساهرة للتأسيس، نشأت شبكات تجارية واسعة النطاق في العقود الأخيرة بين "إسرائيل" وبين ميزانيات احتلال الأراضي الفلسطينية في المناطق المحتلة عام 67، من خلال تهريب الأسلحة والمخدرات والتعرف على هذه الفئة التي تريد أن تقتني لقمة العيش السريعة والسهلة. مما يشكل أرضية خصبة لنقل المعلومات الاستخباراتية وتجنيد المتعاونين مع المخابرات.
بهذه الطرق، وبطرق أخرى كثيرة، تكون المنظمات الإجرامية في المجتمع العربي جزءًا من رأسمالية المافيا الإسرائيلية. استندت هذه الرأسمالية منذ نشأتها على توزيع الامتيازات على القطاعات والعائلات والقبائل على أساس عنصري، ولا تزال قائمة على صفقات فاسدة بين مجموعات من الرجال. أولاً وقبل كل شيء في نظام الامتياز الإسرائيلي: الحق في حمل السلاح واستخدام العنف "الخاص" ضد الآخرين. وبهذا المعنى، فإن التنظيمات الإجرامية في المجتمع العربي والمستوطنين هي تعبير عن نفس ديناميكيات النظام العسكري والأبوي والمحافظ.
وفق هذا التحليل، يجب فهم نمو التنظيمات الإجرامية في المجتمع العربي على أنه نتاج لمشروع السياسي احتلالي اختلالي مهيمن، والأساس المشترك لكليهما: السعي من خلال سفك الدماء وقتل العرب إلى الاستمرار في نمو اقتصاد الاحتلال الإسرائيلي وتوسيع ثروة تل أبيب البرجوازية وتجار السلاح.
في نهاية الأمر، يهدف نشر السلاح وتعزيز المنظمات الإجرامية في المجتمع العربي إلى تحويل العرب الفلسطينيين في إسرائيل إلى شركاء صامتين في إدارة الاحتلال مقابل حراك اجتماعي واقتصادي. مما يعني تجنيدهم في جيش عالي التقنية لكن بالطبع منعهم من تحديد سياسة الجيش الحقيقية. يقترح هذا المشروع للفلسطينيين، أن يقبلوا بمواطنة غير متكافئة وغير ديمقراطية توفر الدعم الكامل لليمين المتطرف. وبهذا المفهوم، الجريمة المنظمة ليست ظاهرة "عربية"، بل هي ظاهرة اقتصادية سياسية واسعة، وحلها سياسة متماسكة وواضحة وحازمة: النضال ضد الاحتلال والمطالبة بالحقوق الأساسية، والنضال من أجل العدالة الاجتماعية.
غير مهم
الاثنين 11 نوفمبر ,2024 ردوصفك وتحليلك جميل وقوي ولكن المشكله الخلفيه الفكريه مختله نريد ان نحرر انفسنا من الاستعمار بادوات الاستعمار هيهات هيهات لما توعدون حتى الثقافه الوطنيه ليست حلنا لانفكاكنا من الاستعمار ولا القوميه حتى انما وسائل رمزيه لتنظيم المجتمعات حتى لا تحدث فوضى بالنظم الاقتصاديه يعنى مثالا ليس الهدف من القضاء على تنظيم عشائري حتى يتسنى في المثاليه المساواتيه المغلوطه نظرا وعملا نكون بذلك قضينا على وظيفته الزراعيه والرعويه انما اذا اخذنا بمبدأ اذكاء روح الاخوه الاسلاميه بين المجتمعات بمعنى ان لا تكون التظيمات العشائريه بتعصبها لذاتها واستكباره على من غيرها وبال وافساد في الارض ونهمل تراثنا وثقافتنا الاسلاميه التي هي عماد رفعتنا ونهمشها بحجه هاذ شي من الماضي السحيق وماذا عن المستقبل البعيد هل نأمن على انفسنا من التنصير والتبشير الاوربي الذي ما يحل ان تنضب علمانيته حتي يغير سلاحه الفكري وهذا قليل مما لدي الخلاصه التي ان اقولها لن تعزل فلسطين عن ثقافتها وتاريخها الاسلامي مهما بدى للناظرين لانها جزء من جغرافيه حكمت لمده 14 قرنا بتوجه اسلامي